«الأمن القومي».. «شبح مطاط» يبتلع الحياة في الولايات المتحدة

“الأمن القومي” عبارة من كلمتين باتت تشكل اليوم “هوسا” حوّل كل شيء من قواعد التجارة إلى تطبيقات المواعدة إلى تهديد محتمل لأمريكا.

ففي الولايات المتحدة، يشكل “الأمن القومي” الشغل الشاغل الذي لا يحتاج إلى تفسير، وأي شيء يتعلق به يؤدي تلقائيا إلى رفع أهميته.

وبلغة مراقبي السياسة الخارجية، فإن قضايا الأمن القومي، مثل تنظيم أسلحة الدمار الشامل، هي مسائل “سياسة عليا”، في حين أن قضايا أخرى، مثل حقوق الإنسان، هي “سياسة دنيا”.

وفي بعض الأوساط، يشكل اللاجئون الفارون من العنف والعوز “تهديدا للأمن القومي”. كما تشكل السيارات المستوردة تهديدا، كما أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.

وهو ما انطبق على ملكية الصين لتطبيق المواعدة Grindr التي رأت لجنة حكومية أمريكية أنه “يشكل خطرا على الأمن القومي”.

تعريف الأمن القومي

يظن البعض أن الدول كانت مهووسة على الدوام بالأمن القومي. لكن الأمريكيين لم يبدأوا في استخدام هذه العبارة بشكل متكرر حتى أربعينيات القرن العشرين، عندما ساعد إدوارد ميد إيرل، المؤرخ الذي عمل في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون بولاية نيوجيرسي- من ثلاثينيات القرن العشرين إلى خمسينياته- في نشر هذا المفهوم بين النخب السياسية والمواطنين العاديين على حد سواء.

ووفق ما طالعته “” في موقع المجلس الأطلسي، لم يكن إيرل هو من صاغ هذه العبارة، ولم يكن وحده أثناء ما يسمى “الأزمة العالمية” في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، في الدعوة إلى سياسة عسكرية وخارجية أكثر عدوانية.

ولكنه كان من أوائل من وضعوا نظرية كاملة للأمن القومي.

وبما أن لا أحد يتفق على القضايا التي تندرج ضمن سلة الأمن القومي، فقد تذبذب التعريف الأمريكي للأمن القومي بشكل كبير على مر الزمن. وفق ما طالعته “” في مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية.

واستخدم جورج واشنطن وألكسندر هاملتون هذا المصطلح أثناء الحقبة الثورية دون أن يتم تعريفه بدقة.

وفي بداية الحرب الباردة، وسّعت الحكومة الفيدرالية حجم وعاء الأمن القومي، بشكل كبير بعد إقرار قانون الأمن القومي لعام 1947، ولكن هذا القانون لم يحدد المصطلح نفسه قط.

ومع تراجع التوترات مع موسكو في نهاية الستينيات، بدأ نطاق الأمن القومي في الانكماش قليلا، ولكن ذلك انتهى عندما أثار حظر النفط عام 1973 مخاوف جديدة بشأن أمن الطاقة.

وفي الثمانينيات، اتسع التعريف حتى انتهت الحرب الباردة.

وفي السنوات بين انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 وهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001، وهي الحقبة التي بدا فيها أن الولايات المتحدة ليس لديها سوى عدد قليل من المنافسين المباشرين ــ واجه حتى علماء الأمن صعوبة في تعريف معنى الأمن القومي.

ومن غير المستغرب أن هؤلاء العلماء لم يتمكنوا من التوصل إلى إجماع. ولكن منذ “الحرب على الإرهاب” التي تلت ذلك، تحول دلو الأمن القومي إلى حوض.

فمن تغير المناخ إلى برامج الفدية إلى معدات الحماية الشخصية إلى المعادن الحيوية إلى الذكاء الاصطناعي، أصبح كل شيء الآن أمنا قوميا.

تهديدات غير تقليدية

وتشير “فورين أفيرز” إلى أن العولمة الاقتصادية والتغير التكنولوجي السريع أديا إلى زيادة عدد التهديدات غير التقليدية التي تواجه الولايات المتحدة.

ولكن يبدو أن هناك أيضا تأثيرا متدرجا، حيث تضيف مؤسسة السياسة الخارجية أمورا جديدة إلى عالم الأمن القومي دون التخلص من القديمة.

ويريد رواد الأعمال السياسيون عبر الطيف السياسي من الإدارة وأعضاء الكونغرس وغيرهم من صناع السياسة الخارجية الأمريكية أن يصنفوا قضيتهم باعتبارها أولوية للأمن القومي، على أمل اكتساب المزيد من الاهتمام والموارد.

أما الشعبويون والقوميون الأمريكيون فيميلون إلى رؤية كل شيء باعتباره تهديدا للأمن القومي ولا يخجلون من قول ذلك.

على سبيل المثال، يدعو مشروع 2025 التابع لمؤسسة التراث، والذي يُعَد بمثابة مخطط لإدارة دونالد ترامب الثانية إذا فاز في انتخابات هذا العام، إلى تنظيم كل من شركات التكنولوجيا الكبرى المحلية والشركات الأجنبية مثل “تيك توك” باعتبارها تهديدات محتملة للأمن القومي.

ونظراً للوجود المستمر لمثل هذه المصالح السياسية والحوافز البنيوية، فمن السهل أن تتوسع قائمة مؤسسة السياسة الخارجية لقضايا الأمن القومي ونادرا ما تتقلص.

ولكن إذا تم تعريف كل شيء على أنه أمن قومي، فلا شيء يشكل أولوية للأمن القومي. بحسب المجلة الأمريكية.

شمولية أكثر

ووفق فورين آفيرز، بلغ مفهوم الأمن القومي اليوم، درجة من الشمولية لدرجة أنه أعاد صياغة الخلافات التجارية مع أقرب حلفاء أمريكا على أنها تهديدات وجودية.

إذ سبق ووصفت إدارة ترامب كندا بأنها ”تهديد للأمن القومي“ بسبب صادراتها من الصلب. ولم يكن من الممكن تصور هذا النوع من التصعيد الخطابي عندما وضع إيرل الأساس للفكرة.

وعندما هددت الواردات خلال فترة الكساد الاقتصادي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، بتقويض الشركات الأمريكية، اتخذ الكونغرس إجراءات. لكن السياسيين لم يعبروا عن مخاوفهم من حيث الدفاع، ولم يشر قانون الحماية الذي أقروه والمكون من 283 صفحة، وهو قانون تعريفة سموت-هاولي، إلى ذلك على الإطلاق. بعبارة أخرى، لم تكن التجارة جزءًا من الدفاع.

وفي الوقت الحالي، يهدد ”الأمن القومي“ بابتلاع كل شيء، ومن الصعب الاعتراض عليه، لأن هناك تهديدات تستحق الاحتراس منها. ولكن يمكننا أن نتساءل بشكل معقول عما إذا كان المفهوم قد تم دفعه بعيدًا جدًا عن معناه.

ووفق المجلة، لقد كان هناك وقت في الماضي غير البعيد عندما لم يكن الأمريكيون يدرجون كل مجال من مجالات صنع السياسة تحت كلمة ”الأمن“، عندما لم تكن الدعوة للسلام واستيراد قطع غيار السيارات الأجنبية تُعامل على أنها تهديدات وجودية، عندما كان الدفاع مفهومًا خاصًا بوقت الحرب، ولم يكن ذريعة لجميع الأغراض للمسؤولين لإخفاء المعلومات أو تدميرها.

وأضافت “إذ نتذكر ذلك، قد نسعى إلى شيء مماثل اليوم لنعيد الأمن القومي إلى صندوقه، وربما، من خلال ذلك، نتنفس بسهولة أكبر”.